320px-Georg_Friedrich_Kersting_-_Die_Stickerin_-_1._FassungGeorg Friedrich Kersting لوحة للفنان الألماني

حين نمر على الأحداث الحاضرة بشكل سريع فإننا نجد في نفسنا شيئاً منها، و تختلف ردود أفعالنا ونظرتنا حيالها وتجاه الحياة والعالم، كلنا في الحقيقة نأخذ مايجري في العالم على محمل الجد لكن ليس كل أحد منا يتحرك إزاء أحداثها بشكل مباشر وبالطريقة ذاتها، بل ربما يخلق حياة جانبية أو حياة أخرى خاصة فيه تتقاطع مع كل ذلك الواقع بشكل مختلف ليواجه فيها صعوبة ماوقع في نفسه خلال أحداث العالم من حرب، ومجاعة،وآلام أخرى. إذاً فالسؤال القائم هو هل الكتاب يكتبون لأجل العالم ومايجري فيه من أحداث؟ أو لماذا يكتب الكتاب؟

يقول جورج أورويل صاحب روايتي مزرعة الحيوان و العالم ١٩٨٤وهو من أشهر وأعظم من كتبوا في الأدب السياسي، أنا أكتب لأجعل من الكتابة السياسية فناً، وعندما أجلس لكتابة كتاب أكتبه ذلك لأن هناك كذبة ما أريد فضحها،أو حقيقة ما أريد إلقاء الضوء عليها”

وإن قلبنا في سيرة كاتب آخر لنعرف أسباب رغبته في الكتابة فإننا سنشهد رؤية مماثلة لكنها تتجه باتجاه آخر، فأورهان باموك يقول: أكتب كي أشير أو أناقش بعض الآراء، أكتب لأنني غاضب منكم جميعا، من العالم كله”. ويشترك كثير من الكتاب في قولهم أنهم يكتبون لأنهم لا يحسنون فعل شيء آخر، لأن تلك هي رغبتهم، ولأن حركة العالم تصر عليهم ليقوموا بذلك الفعل، أي بفعل الكتابة.

على الرغم من أن الكتابة هي كشف عن أغوار النفس والعقل، وهي انكشاف على الآخر بطريقة أو بأخرى ،فإننا نجازف ونكتب ونسهب في طرح أفكارنا على الآخر اتفق أو اختلف معنا، مع أن الأفكار في الحقيقة قد تتغير، ونحن أنفسنا قد نتغير،لأننا لسنا ثابتين، ومع ذلك فإننا نكتب ونسجل تاريخ أفكارنا بطريقة معينة في لحظة معينة. ومن هنا نستطيع القول أن الكتابة هي إثبات وجود، فمن لا يظن أن حرفاً منه قد يجد طريقه للعالم ويؤثر فيه فهو لن يكتب، ومع معرفتنا بذلك فإننا نستبطن تلك الفكرة، ونصبح أكثر خوف بأننا قد نصبح في يوما ما حرفا في صفحة قد تنطوي إلى الأبد. ومهما تكابل الخوف من أن تكون أفكارنا هامشية، أو أنها لن تصنع فارق في العالم، فإننا لا نقف ولا نجرؤ على أن نرفع أقلامنا، بل إن الكتابة تصبح مع الوقت هي الوسيلة الوحيدة لنَصْدُق فيها مع أنفسنا ومع الواقع ونجد فيها ذواتنا واضحة جلية.

ومن أعظم الآثار التي تتركها الكتابة في الكاتب هي أنها تضيف له تلك المعرفة الصادمة بأن الكاتب في الحقيقة ليس دائماً يتفق مع كل أفكاره بل أنه قد يستاء لما يكتشفه عن بعض ما يكون مستتراً ومترسباً في لاوعيه، لكن الكتابة بحد ذاتها تعريه أمام نفسه وحينها يكون بين خيارين إما أن يقبل ذاته تلك ويتعايش معها أو أنه يحاول تغييرها.

فالكتابة في نهاية الأمر هي محاولة لكشف الحقيقة، حقيقة نفسك، أو حقيقة الحياة والعالم، أو أي حقيقة قد أدركت أنه يجب عليك البحث عنها. ولا نستطيع إلا أن نصدق بأن الكتابة هي موضوع متشابك بين الذات والآخر والحياة وثلاثية يلتزم بها الكاتب ما إن يبدأ بحرفه الأول إلى أن ينتهي، أي هي دوافع متلازمة ومتشابكة بين الأنا والموضوع. إذن فنحن نكتب، لأن الكتابة تحررنا من العوالق وتكسر نمطية تفكيرنا ، ونحن نكتب لأننا لا نحتمل أن نختبئ وراء ضمائرنا إزاء مايحدث في العالم ونصمت أكثر، ونحن نكتب لأننا لا نجيد شيء سوى الكتابة

ولكل تلك الأسباب وغيرها نحن نكتب.. ونكتب.. ونكتب.